كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: «قال لي»، أي وحدي أو مخاطبا لي من بين أصحابي، «يا بني» بضم التاء تصغير ابن، وهو تصغير لطف ومرحمة، ويدل على جواز هذا لمن ليس ابنه، ومعناه اللطف، وأنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة.
قوله: «إن قدرت»، أي استطعت، والمراد: اجتهد قد ما تقدر «أن تصبح وتمسي»، أي تدخل في وقت الصباح والمساء، والمراد جميع الليل والنهار «ليس في قلبك» الجملة حال من الفاعل، تنازع فيه الفعلان، أي وليس كائنا في قلبك «غش» بالكسر ضد النصح، الّذي هو إرادة الخير للمنصوح له.
قوله: «لأحد» وهو عام للمؤمن والكافر، فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه، ويسعى في خلاصه من ورطة الهلاك باليد واللسان، وللتألف بما يقدر عليه من المال. كذا ذكره الطيبي.
قوله: «فافعل»، جزاء كناية عما سبق في الشرط، أي افعل نصيحتك «وذلك»، أي خلو القلب من الغش، قال الطيبي: وذلك إشارة إلى أنه رفيع المرتبة أي بعيد التناول «من سنتي» أي طريقتي، «ومن أحيا سنتي» أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل، «فقد أحياني ومن أحياني» كذا في النسخ الحاضرة من الإحياء في المواضع الثلاثة.
وأورد صاحب المشكاة هذا الحديث نقلا عن الترمذي بلفظ «من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة»، ومن الإحباب في المواضع الثلاثة، فالظاهر أنه قد وقع في بعض نسخ الترمذي هكذا، والله تعالى أعلم.
قال محققه: ولعل المقريزي- رحمه الله- قد نقل من إحدى هذه النسخ ذلك اللفظ الّذي حققناه وصوبناه من الرواية الأخرى حسب الهوامش السابقة على متن هذا الحديث.
قوله: «كان معي في الجنة»، أي معية مقاربة لا معية متحدة في الدرجة، قال تعالى: {وَمن يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ من النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ} 4: 69.
ومخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتبديل سنته ضلال وبدعة، يوعد الله تعالى على ذلك بالخذلان والعذاب، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} 24: 63، وقال: {وَمن يُشاقِقِ الرَّسُولَ من بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا} 4: 115.
والآثار المسندة والموقوفة أيضا كثيرة جدا وفي استيعابها خروج عما نحن بصدده، وفيما أوردته كفاية إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى الموفق بمنه.
{أُولئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 169].
قوله: وعلي بن زيد صدوق، وضعّفه غير واحد من أئمة الحديث، وكان رفّاعا بفتح الراء وتشديد الفاء، أي كان يرفع الأحاديث الموقوفة كثيرا وقد روى عباد بن ميسرة المنقري بكسر الميم وسكون النون، البصري المعلم، لين الحديث، عابد من السابعة ولا غيره بالنصب عطف على هذا الحديث.
قوله: ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين مقصود الترمذي بهذا أن المعاصرة بين أنس وبين سعيد بن المسيب ثابتة، فيمكن سماعة منه. تحفة الأحوذي: [7/ 370 – 371]، أبواب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، حديث رقم [2818].
وأما أمر الكافّة بالتّأسي به قولا وفعلا فقال تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [33: 21]، فأمر تعالى بالتأسي به صلى الله عليه وسلّم أمرا مطلقا، لم يستثن من التأسي به شيئا بخلاف أمره تعالى بالتأسي بإبراهيم عليه السلام. فإنه استثنى بالتأسي به، قال تعالى: {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ من دُونِ الله كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [60: 4]، فحثّ تعالى المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم عليه السلام والذين معه من أنبياء الله فيما ذكر تعالى، ثم استثنى من التأسي به استغفاره عليه السلام لأبيه، فنهى المؤمنين عن التأسي به في ذلك. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ} [60: 4]، قال: نهوا أن يتأسوا به في استغفاره لأبيه، فيستغفروا للمشركين، وقال مطرف عن مجاهد: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْراهِيمَ} [60: 4] إلى قوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [60: 4] يقول تعالى: ائتسوا به في كل شيء ما خلا قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [60: 4] فلا تأتسوا بذلك منه، فإنّها كانت عن موعدة وعدها إياهـ.
وقال معمر عن قتادة: يقول: لا تأتسوا بذلك منه فإنه كان عليه موعدا، وتأسوا بأمره كله، وقال ابن وهب: قال ابن زيد: قول الله تعالى: {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْراهِيمَ} [60: 4] إلى قوله: {إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [60: 4] قال: يقول: ليس لكم في هذه أسوة، وقال محمد بن علي الترمذي:
الأسوة في الرسول صلى الله عليه وسلّم الاقتداء به والاتباع لسنته وترك مخالفته في قول أو فعل.
وقال الإمام محمد بن عمر الرازيّ: اختلفوا في أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلّم بمفرده،
هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدها: أنه للوجوب وهو قول ابن شريج وأبي سعيد الاصطخري، وأبي على ابن خيران.
وثانيها: أنه للندب ونسب ذلك إلى الشافعيّ رحمه الله.
وثالثها: أنه للإباحة وهو قول مالك رحمه الله.
ورابعها: أنه يتوقف على الكل، وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة، وهو المختار لنا، إنا إذا جوّزنا في ذلك الفعل أن يكون ذنبا له ولنا، وحينئذ لا يجوز لنا فعله، وإن لم نجوز الذنب عليهم جوزنا كونه مباحا ومندوبا وواجبا، وبتقدير أن يكون واجبا جوزنا أن يكون ذلك من خواصه، وأن لا يكون، ومع احتمال هذه الأقسام امتنع الجزم بواحد منها، واحتج القائلون بالوجوب بالقرآن والإجماع والمعقول، أما القرآن: فسبع آيات.
أولها: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 24: 63، والأمر حقيقة الفعل، والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله.
وثانيها: قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} 33: 21، وهذا يجري مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به، ولا معنى للتأسي إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله.
وثالثها: قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 6: 153، وظاهر الأمر للوجوب، والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله.
ورابعها: قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي} 3: 31، دلت الآية على أن محبته تعالى مستلزمة للمتابعة، لكن المحبة واجبة بالإجماع، ولازم الواجب واجب، فمتابعه واجبة.
وخامسها: قوله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}9: 7، فإذا فعل فعلا فقد أتانا بالفعل، فوجب علينا أن نأخذه.
وسادسها: قوله تعالى: {أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ} 3: 132، دلت الآية بإطلاقها على وجوب طاعة الرسول، والآتي بمثل ما فعله الغير لأجل أن ذلك الغير فعله طائع لذلك الغير، فوجب أن يكون ذلك واجبا.
وسابعها: قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَرًا زَوَّجْناكَها} 33: 37، بين أنه تعالى إنما زوجه لها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك وهو المطلوب.
وأما الإجماع فلأن الصحابة بأجمعهم اختلفوا في الغسل بالتقاء الختانين، فقالت عائشة رضي الله عنها: فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم فاغتسلنا، فرجعوا إلى ذلك، وإجماعهم على الرجوع حجة، وهو المطلوب.
وإنما كان ذلك لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقد أجمعوا ها هنا على أن مجرد الفعل للوجوب، ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل، وخلعوا نعالهم لما خلع، وأمرهم عام الحديبيّة بالتحلل فتوقفوا، فشكا ذلك إلى أم سلمة رضي الله عنها فقالت: اخرج إليهم فاحلق واذبح، ففعل، فحلقوا وذبحوا مسارعين، وأنه خلع خاتمه فخلعوا، وأن عمر رضي الله عنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك، وأما خلع الخاتم فهو مباح، فلما خلع أحبوا موافقته لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم.
والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الضرر قطعا، وها هنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما، وإذا احتمل الأمران لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا.
وعن الثاني إن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيما، ولذلك يقبح من العبد أن يفعل كل ما يفعله سيده، واحتج القائلون بالندب بالقرآن والإجماع والمعقول.
أما القرآن: فقوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 33: 21، فلو كان التأسي به واجبا لقال عليه، ولما لم يقل ذلك وقال لكم دل على عدم الوجوب، ولما أثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك، فلم يكن مباحًا.
وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل الأمصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب.
وأما المعقول: فهو أنه يفيد أن فعله إما أن يكون راجح العدم أو مساوي العدم أو مرجوح العدم، والأول باطل لما ثبت أنه لا يوجد منه الذنب، والثاني باطل ظاهر، لأن الاشتغال به عبث، والعبث مزجور عنه لقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا} 23: 115، فتعين الثالث، وهو أن يكون مرجوح العدم.
ثم لما تأملنا أفعاله صلى الله عليه وسلّم وجدنا بعضها مندوبا وبعضها واجبا، والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجوب وعدم الوجوب ثابت بمقتضى الأصل، فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب.
والجواب عن الأول ما تقدم: أن التأسي في إيقاع الفعل على الوجوب الّذي أوقعه، فلو فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي.
وعن الثاني أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل، فلعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر.
وعن الثالث: لا نسلّم أن فعل المباح عبث، لأن العبث هو الخالي عن العرض، وإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثا، بل من حيث النفع به خرج عن العبث، فلم قلتم بأنه خلّى عن العرض، ثم حصول العرض في التأسي بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم متابعته في أفعاله بيّن، فلا يعد من أقسام العبث.
واحتج القائلون بالإباحة بأنه لما ثبت أنه لا يجوز صدور الذنب منه صلى الله عليه وسلّم ثبت أن فعله لابد وأن يكون مباحا أو مندوبا أو واجبا، وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل، فأما رجحان جانب الفعل يثبت على وجوده دليلا لأن الكلام فيه، وثبت على عدمه دليل، لأن هذا الرجحان كان معدوما، والأصل في كل شيء بقاؤه، فقد ثبت بهذا أنه لا حرج في فعله قطعا، ولا رجحان في فعله ظاهرا، فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله صلى الله عليه وسلّم أن يكون مباحا ترك العمل به في الأفعال التي كونها واجبة أو مندوبة، فبقي معمولا به في الباقي، وإذا ثبت كونه مباحا ظاهرا وجب أن يكون في حقنا كذلك، للآية الدالة على وجوب التأسي ترك العمل به فيما إذا كان من خواصه، فبقي معمولا به في الباقي.
والجواب هنا: أنه في حقه صلى الله عليه وسلّم كذلك، فلم يجب أن يكون في حق غيره كذلك؟ والله أعلم.
قال جمهور الفقهاء والمعتزلة: التأسّي واجب، ومعنى ذلك أنا إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلّم فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن نفعله على وجه الوجوب، وإن علمنا أنه مستقل به كنا متعبدين بالتنفل به، وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته، وجاز لنا أن لا نفعله.
وقال أبو على بن خلاد- تلميذ أبي هاشم من المعتزلة-: نحن متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها كالمناكحات والمعاملات، ومن الناس من أنكر ذلك في الكل، احتج أبو الحسن بالقرآن والإجماع.
أما القرآن فقوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 33: 21 والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على الوجه الّذي فعل ذلك الغير، ولم يفرق الله تعالى بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلّم إذا كانت مباحة أو لم تكن مباحة.
وأما الإجماع: فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه صلى الله عليه وسلّم في قبلة الصائم، وفي من أصبح جنبا لم يفسد صومه، وفي تزويج النبي ميمونة رضي الله عنها وهو حرام، وذلك يدل على أن أفعاله لابد من أن يمتثل بها في طريقه.
ولقائل أن يقول: على الدليل الأول، الأمر يفيد التأسي به مرة واحدة، كما أن قول القائل لغيره: لك في الدار ثوب حسن، يفيد ثوبا واحدا، فإن قلت: هذا إن ثبت تم عرضا من التعبد بالتأسي به صلى الله عليه وسلّم في الجملة، ولأنه يفيد إطلاق كون الشيء أسوة لنا، ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة لزيد إلا إذا لم يجز لزيد وصف أن يتبعه إلا في واحد، وإنما يطلق ذلك أن لو كان ذلك الإنسان لزيد قدوة يهتدي به في أموره كلها ما خصه الدليل.
قلت: الجواب عن الأول: أن أحدا لا ينازع في التأسي به صلى الله عليه وسلّم في الجملة، لأنه لما قال: صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم، فقد أجمعوا على وقوع التأسي به، والآية ما دلت إلا على المرة الواحدة، فكان التأسي به صلى الله عليه وسلّم في هذه الصورة كافيا في العمل بالآية، لاسيما والآية إنما وردت على صيغة الإخبار عما مضى، وذلك يكفي فيه وقوع التأسي به فيما مضى.
والجواب عن الثاني: أنك إن أردت أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة إلا إذا كان أسوة في كل شيء فهو ممنوع، ثم يدل على فساده وجهان:
الأول: أنه من يعلم من إنسان نوعا واحدا من العلم يقال له: إن لك في فلان أسوة حسنة في كل شيء، ويقال لك في فلان أسوة حسنة في هذا الشيء دون ذاك ولو اقتضى اللفظ العموم لكان الأول تكرار، والثاني نقصا، وإن أردت أنه يصح إطلاق اسم الأسوة إذا كان أسوة في بعض الأشياء فهذا مسلّم، ولكنه صلى الله عليه وسلّم أسوة لنا في أقواله وأفعاله التي أمرنا بالاقتداء بها كقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم».
والجواب عن الحجة الثانية: أن قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} 6: 153 يطلق في الاتباع فلا يفيد العموم في كل الاتباعات، والأمر لا يقتضي التكرار، فلا يفيد العموم في كل الأزمنة، فإن قلت: ترتب الحكم على الاسم يشعر بأن المسمى علة لذلك الحكم، فماهية المتابعة علة الأمر بها، قلت: فعلى هذا لو قال السيد لعبده:
اسقني، يلزمه أن يكون أمرا له يجمع أنواع السقي في كل الأزمنة، وفي هذه الأمثلة كثرة، وما ذكرناه في فساد ما قالوا، وأما الإجماع فقد سبق الكلام عليه، قال: لما عرفت أن التأسّي مطابقة المتأسّى به في الوجه وجب معرفة الوجه الّذي عليه وقع فعل الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو ثلاثة: الندب والإباحة والوجوب.
أما الإباحة فتعرف بطرق أربعة:
أحدها: أن ينص رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أنه مباح.
وثانيها: أن تقع امتثالا لأنها دالة على الإباحة.
وثالثها: أن تقع بيانا لأنها دالة على الإباحة.
ورابعها: أنه لما ثبت أنه لا ندب ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل، ويعرف نفي كيفية الوجوب والندب بالبقاء على الأصل، فحينئذ نعرف كونه مباحا. أما الندب فيعرف بتلك الثلاثة الأدلة مع أربعة أخرى.
أحدها: أن يعلم من قصده صلى الله عليه وسلّم أنه قصد القربة بذلك الفعل، فيعلم أنه راجح الوجود، ولم يعرف انتفاء الوجوب بحكم الاستصحاب فيثبت الندب.
وثانيها: أن ينص على أنه كان مخيّرا بين ما فعل وبين فعل ما ثبت أنه ندب، لأن التخيير لا يقع بين الندب وبين ما ليس بندب.